حوار شامل حول الفدراليّة

 

سلسلة الكتيّبات

المجلّد الثاني

A Global Dialogue on Federalism

Booklet Series

Volume II

 

ترجمة نور الأسعد

المعهد الدّيمقراطي الوطني

2005، لبنان

 

 

 

 

 

حوارات حول توزيع السّلطات والمسؤوليّات في الدّول الفدراليّة

Dialogues on Distribution of Powers and Responsibilities in Federal Countries

 

 

 

منتدى الاتّحادات الفدراليّة

Forum of Federations

 

                                                         

المحتويات

 

دراسات مقارنة           (رونالد ل. واتس)

 

حالات للدّراسة

كندا: المنافسة ضمن الفدراليّة التّعاونيّة                      (ريتشارد سيمون)

ألمانيا: التّشريع الفدرالي المطبّق في المقاطعات            (هانس-بيتر شنايدر)

الهند: الاستمراريّة والتّغيير في الاتّحاد الفدرالي (جورج ماثيو)
 

دراسـات مقـارنة

رونالد ل. واتس

Comparative Reflections

Ronald L. Watts

 

شكّل توزيع السّلطات التّشريعيّة والتّنفيذيّة والموارد الماليّة، وفق ما يقتضيه الدّستور، بين الحكومة العامّة وحكومات الوحدات المكوّنة، مظهراً أساسيّاً، لا بل محدّداً، من مظاهر تصميم الاتّحادات الفدراليّة وسير عملها. لكن بينما يعتبر هذا التّوزيع الدّستوريّ للسّلطات والمسؤوليّات والموارد الماليّة، بين مختلف المستويات الحكوميّة، ميزةً أساسيّة ومشتركة في ما بينها، إلا أنّ المرء لا يمكن إلاّ أن يلاحظ تفاوتاً هائلاً في الشّكل والنّطاق الدّستوريّين لهذه الأنظمة، وفي عمليّة توزيع السّلطات ضمن الاتّحادات الفدراليّة المختلفة.

 

لقد تأثّرت قوّةُ المصالح المشتركة ودرجةُ التّنوّع الخاصّة بكلّ اتّحادٍ فدراليّ، جرّاء مختلف العوامل الجغرافيّة، والتّاريخيّة، والاقتصاديّة، والأمنيّة، والدّيمغرافيّة، واللّغويّة، والثّقافيّة، والفكريّة، والعالميّة. بالتّالي، اختلف التّوزيعُ المحدّد للسّلطات ودرجةُ اللامركزيّة بين الاتّحادات الفدراليّة.

 

من بين الاختلافات في شكل التّوزيع الدّستوري للسّلطات، نذكر:

§        مدى التّشديد على صلاحيّات الحكومة المقتصرة عليها وحدها أو المشتركة مع غيرها،

§        وتعيين سلطات الولايات أو المقاطعات بموجب لائحة محدّدة من الصّلاحيّات، أو توزيع عام لحصص السّلطة المخلّفة،

§        ومدى التّوافق أو الاختلاف بين تعيين المسؤوليّات التّنفيذيّة والصّلاحيّات التّشريعيّة،

§        والتّناسق أو اللاتناسق في السّلطات الموكلة إلى مختلف الوحدات المكوّنة،

§        ومدى الاعتراف الدّستوريّ الرّسميّ بالحكومات المحليّة كمستوى حكوميّ دستوريّ ثالث يضمن حقّه في الحكم الذّاتيّ،

§        ومدى السّلطات الفدراليّة المبطلة والطّارئة.

 

أمّا في ما يتعلّق بنطاق السّلطات الدّستوريّة، فقد لوحظت تبايناتٌ كبيرة في الأدوار النّسبيّة التي تؤدّيها الحكومات في ما يتعلّق بالمسائل السّياسيّة المختلفة. كما تختلف التّدابير الماليّة ودرجة الاعتماد على التّحويلات الماليّة ما بين الحكومات أيضاً. نتيجةً لذلك، لوحظ اختلافٌ جوهريّ بين درجات المركزيّة واللامركزيّة، ودرجات التّعاون أو المنافسة بين الحكومات ضمن الاتّحادات الفدراليّة المختلفة.   

 

وتجدر الإشارة إلى الاختلاف الواضح في التّطبيق، ضمن كلّ اتّحادٍ فدراليّ، بين الشّكل الدّستوريّ والواقع العمليّ لتوزيع السّلطات. ففي معظم الحالات، حوّلت الممارسة والعمليّات السياسيّة من طريقة عمل الدّستور. ولعلّ العامل الأساسيّ في ذلك هو تأثير الحزب السياسيّ ونشاطات مجموعات المصلحة التي تؤثّر على التّسويات والمساومات السياسيّة.

 

صحيحٌ أنّه تمّ تخصيص حصّة دستوريّة من السّلطات المحدّدة لكلّ حكومة، ضمن كلّ اتّحادٍ فدراليّ، لكن ثبت أنّه لا يمكن تفادي التّشابك والاتّكال المتبادل بين الحكومات في كلّ اتّحادٍ فدراليّ. نتيجةً لذلك، عادةً ما يتطلّب هذا سلسلةً متنوّعة من العمليّات والمؤسّسات لتيسير التّعاون ما بين الحكومات. غير أنّ هذه الحالة لا تخلو بدورها من اختلافٍ هائل بين الاتّحادات الفدراليّة من حيث درجة التّعاون بين الحكومات وطابع هذا التّعاون، فضلاً عن التّوازن بين استقلاليّة الحكومات واتّكالها على بعضها البعض. على سبيل المثال، تتميّز ألمانيا والمكسيك بعلاقاتٍ وطيدة ومتشابكة ضمن اتّحاديهما الفدراليّين، بينما تميل كندا وبلجيكا، بالمقارنة، إلى النّقيض.  

 

لم تكن الاتّحادات الفدراليّة منظّماتٍ جامدةً قط. لذا، مع مرور الوقت، كان يجب أن يتكيّف توزيع السّلطات في كلّ منها ويتطوّر من أجل الاستجابة للحاجات والظّروف المتغيّرة، ولتطوّر القضايا الجديدة ومسائل السياسة. من هنا، فمن خلال السّعي إلى إقامة توازنٍ بين الصّلابة لحماية المصالح الإقليميّة ومصالح الأقليّات من جهة، والحاجة إلى الاستجابة الفعّالة للظّروف المتغيّرة من جهةٍ أخرى، أدّى عددٌ من العمليّات دوراً مهمّاً، وإن بدرجاتٍ متنوّعة، ضمن الاتّحادات الفدراليّة المختلفة. فقد تضمنّت هذه الأدوار التّعديلات الدّستوريّة الرّسمية، والمراجعة والتّفسير القضائيّين، والتّعديلات الماليّة ما بين الحكومات، والاتّفاقات والتّعاون ما بين الحكومات أيضاً. تجدر الإشارة إلى أنّ تطوّر توزيع السّلطات نتيجةً للظّروف المتغيّرة قد أدّى، في بعض الحالات كما في الولايات المتّحدة، وأستراليا، وألمانيا، والبرازيل، والمكسيك، ونيجيريا، إلى ميلٍ عام نحو تعزيز السّلطات الفدراليّة وتوسيعها. غير أنّ هذا الميل ليس عالميّاً. ففي المقابل، اختبرت كندا والهند وبلجيكا، مع مرور الوقت، ميلاً نحو لامركزيّة أكبر تعكس نقاط قوّة الجماعات المتنوّعة التي تكوّنها.

 

حاليّاً، تتعرّض كافة الاتّحادات الفدراليّة المعاصرة لضغوطاتٍ، كما تُجري نقاشاتٍ لتعديل طريقتها في توزيع السّلطات، بهدف الإيفاء بالشّروط الجديدة والمتغيّرة. فدعت الحاجة إلى إعادة التّوازن بين المركزيّة واللامركزيّة، وبين الفدراليّة التّعاونيّة والتّنافسيّة، نتيجة السياق الحاليّ للعولمة والدّمج الإقليمي، ولعضويّة الاتّحادات الفدراليّة في مثل هذه المنظّمات التي تتخطّى الفدراليّة، كالاتّحاد الأوروبي واتّفاقيّة التّجارة الحرّة لأميركا الشّماليّة، وكذلك نتيجة التّشديد على اقتصادات السوق وفوائد اللامركزيّة الاقتصاديّة، والقلق بشأن مدى توفّر الحماية ضدّ الإرهاب. بالنّظر إلى ذلك، تمّ الاعتراف أنّه لا يمكن تصوّر الاتّحادات الفدراليّة، وعمليّة توزيع المسؤوليّات ضمنها، كبنى صلبة، بل كعمليّات متطوّرة تسمح بالمصالحة الدّائمة بين مصادر التّنوّع الدّاخليّ، ضمن إطارها الفدرالي الشّامل. انطلاقاً من هذا المنظور، يمكن القول إنّ توزيع السّلطات والمسؤوليّات ضمن هذه الاتّحادات الفدراليّة، والتّوازن بين "الحكم المشترك" عبر المؤسّسات المشتركة من جهة، و"الحكم الذّاتي" للوحدات المكوّنة من جهةٍ أخرى، ينعكس في فصل ريتشارد سايمون "كعملٍ متقدّم" بشكلٍ متواصل.

 

 


 

كندا: المنافسة ضمن الفدراليّة التّعاونيّة

ريتشارد سايمون

 

Canada: Competition within Cooperative Federalism

Richard Simeon

 

إذا قرأت القوانين المدرجة في الدّستور الكندي الصّادر عام 1867، لن تعرف، إلا جزئيّاً، من الممسك بزمام الأمور، وما طبيعة المسؤوليّات الموزّعة. فمع أنّ الفقرتين 91 و92 من القانون تعرّفان بتوزيع السّلطات والمسؤوليّات في كندا، إلا أنّهما لا تمنحان إلا صورةً جزئيّة عن توازن القوى الحقيقيّ. فتوزيع السّلطات في تغيّر مستمرّ. يظهر ذلك من خلال انتقال النّفوذ من الهيمنة الفدراليّة، إلى فدراليّةٍ ثنائيّة تقليديّة، فإلى إعادة تأكيد على النّفوذ الفدرالي، فإلى الشّكل الحاليّ، حيث يعتمد مستويان حكوميّان قويّان على العديد من المحرّكات القضائيّة، والبيروقراطيّة، والماليّة، والسياسيّة، لتحديد شكل السياسة في مجالاتٍ واسعة النّطاق. فإذا انبثقت مشكلات مرتبطة بهذه السياسة الجديدة، كمشكلة البيئة مثلاً، سيكون لدى كلا الطّرفين النّية والوسائل اللازمة للمشاركة في حلّها. وهكذا، تستبدل "الميادين المحكمة الشّروط" بالتّداخل والتّشارك والاتّكال المتبادل. ولعلّ أهمّ مميّزات عمليّة صنع القرار الكنديّ هو مزيجٌ معقّد من التّعاون والتّنافس بين الحكومات.

 

صحيحٌ أنّ التّعديلات تبقى نادرة وعسيرة، إلا أنّ القرارات القضائيّة، والاتّفاقات ما بين الحكومات، والتّحويلات الماليّة، أتاحت للدستور التّكيّف إزاء الحاجات الجديدة. وقد حدثت التّغييرات المهمّة عام 1982، حين اعتُمدت شرعة الحقوق و"استُمدّت" سلطة تعديل الدّستور من بريطانيا العظمى، من دون إدراج التّعديلات في الدّستور الكنديّ نفسه؛ وبالتّالي لم يعد لزاماً على كندا أن تطلب إذن البرلمان الإنكليزي في ويستمنستر كلّما أرادت تطبيق أحد التّعديلات الدّستوريّة الرّسميّة. وقد منيت محاولتان أساسيّتان لإجراء تعديلاتٍ مهمّة بالفشل.

 

تشرح عوامل عديدة المخطّطات المتغيّرة للفدراليّة الكنديّة، وأوّلها التّغيير الدّيمغرافي. فكندا التي كانت مؤلّفة من أربعة أقاليم عام 1867، وتضمّ 3.5 مليون نسمة، أصبحت اليوم دولةً بعشرة أقاليم وثلاث مقاطعات، تحيط بها ثلاثة محيطات، ويقطنها 32 مليون نسمة. بعبارةٍ أخرى، ما كان دولةً ريفيّة كبيرة بالأمس أصبح اليوم إحدى أكثر الدّول تمدّناً في العالم. كما أضحى هذا المجتمع المكوّن أساساً من سلالة الفرنسيّين والبريطانيّين (إلى جانب السّكان الأصليّين الذين تمّ ترحيلهم بأعدادٍ هائلة) أحد أكثر مجتمعات العالم تنوّعاً وتعدّداً للثقافات. أمّا العامل الأساسيّ الثّاني، فيتعلّق بأهميّة الاتّفاقات والتّجارة العالميّة. فكندا دولةٌ مدرجة اقتصاديّاً في سوق أميركا الشّماليّة. وقد أدّى هذا التّغيير إلى تأثيراتٍ هائلة على برامج السياسات وتوقّعات المواطنين. هذا من ناحيةٍ. أمّا من ناحيةٍ أخرى، فقد شملت المجموعة الثّالثة من العوامل الخلافاتِ الإقليميّة حول مفاهيم المواطنيّة، والهويّة، والمجتمع. ولعلّ اللغة هي العامل الأساسيّ الذي يزرع بذور الانقسام. فيتمتّع الكنديّون النّاطقون بالفرنسيّة، والمتمركزون في الكيبك، بحسّ قويّ تجاه هويّتهم الوطنيّة وبمقاربةٍ متميّزة لدور الدّولة. فتجدر الإشارة إلى أنّ الكيبك قد قاوم تزايد السّلطة الفدراليّة، حتّى أصبح اليوم مدافعاً قويّاً عن حالة "اللاتناسق". كما تتمتّع أقاليم أخرى بالتزامٍ تجاه هويّاتها البارزة، واهتماماتها السياسيّة المتميّزة، وحكوماتها المكوّنة القويّة. من هنا، غالباً ما تعتبر السياسة الواحدة التي يمتدّ تأثيرها على الدّولة بأكملها غير مناسبة وغير قابلة للتّنفيذ. 

 

إنّ تفاعل هذه القوى التي تسلك غالباً اتّجاهاتٍ مختلفة يجعل من الصّعب وصف عمليّة توزيع السّلطات وفق شروطٍ بسيطة. فأوتاوا مسؤولةٌ، بشكلٍ كبير، عن الشّؤون الخارجيّة، والأمن، والسياسة الاقتصاديّة الشّاملة، والهجرة، والمواطنيّة. غير أنّ الأقاليم تملك رأياً مهمّاً في هذه الحقول كذلك. وهي مسؤولةٌ، بشكلٍ كبير، عن التّربية، والرّعاية الصّحيّة، والإنعاش، والتّنمية الاقتصاديّة، وتنظيم الصّناعة. إلا أنّ هذا لا يمنع أن تشارك أوتاوا في هذه الميادين أيضاً، عبر التّنازل عن بعض الصّلاحيات لحكومات الأقاليم، وعبر برنامجها من أجل المساواة بين الأقاليم، وهدفه ضمان قدرة الأقاليم الأكثر فقراً على الإيفاء بمسؤوليّاتها بدون الإثقال عليها بالضّرائب. كلّ هذا أدّى إلى "الفدراليّة التّعاونيّة"، في ظلّ عقد عدّة اتّفاقات ما بين الحكومات حول القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة، والرّعاية الصّحية، والبيئة.

 

غير أنّ إسناد المهام إلى الشّخص المناسب ليست قضيّةً مبتوتٌ فيها تماماً، لا سيّما وأنّ عدداً من الأسئلة المهمّة أصبحت تواجه المواطنين والحكومات اليوم.

 

من هذه الأسئلة، نذكر أوّلاً المخاوف بشأن اختلال التّوازن الماليّ. فتؤكّد الأقاليم على عدم الملاءمة بين مسؤوليّاتها والمداخيل المتوفّرة لها، فيما تشدّد الحكومة الفدراليّة على حاجاتها الماليّة الخاصّة، وقدرة الأقاليم على رفع الضّرائب.

 

يشمل أحد النّقاشات الأخرى "المعايير الوطنيّة" بالتّعارض مع التّغييرات الإقليميّة. فتفترض المواطنيّة تطبيق المعايير العامة على الكنديّين جميعاً، فيما تُبنى الفدراليّة وفقاً للتّغييرات السياسيّة. بالتّالي كيف يمكن إقامة التّوازن في بعض المجالات، كالرّعاية الصّحية مثلاً؟

 

من القضايا المستجدّة نسبيّاً المشاركة في الأنظمة الاقتصاديّة الشّاملة وتلك المعتمدة في أميركا الشّماليّة. فهل تحتلّ الأقاليم والحكومات المحليّة الموقع الأفضل للتّكيّف إزاء الضّروريّات الشّاملة، أم أنّ الحاجة تدعو إلى سلطةٍ فدراليّة أقوى من أجل ضمان صوتٍ موحّد لكندا في الخارج؟

 

صحيحٌ أنّ الدّستور يوكل المسؤوليّات نفسها إلى الأقاليم كلّها، لكن هل يمكن لحالة "اللاتناسق" أن تعكس بشكلٍ أفضل واقع الدّولة؟ إذا ما تأمّل المرء القوانين والممارسات الحاصلة، فسيلاحظ أنّ اختلافاتٍ كبيرة قد تطوّرت بين الأقاليم. فهل سيعزّز اللاتناسق الزّائد الفدراليّة أم سيضعفها؟

 

تتردّد كندا بين الفدراليّة التّنافسيّة والتّعاونيّة. فيجادل البعض أنّ السياسة الفعّالة تتطلّب المشاركة في اتّخاذ القرارات، نظراً إلى التّداخل الواسع في المسؤوليّات. أمّا البعض الآخر، فيقترح أنّ الحكومات يجب أن تتنافس في إطار عمليّةٍ تواجهيّة، لضمان ابتكار السياسات ودرجة الاستجابة.

 

في الآونة الأخيرة، أصابت كندا والعديد من البلدان الأخرى صدماتٌ خارجيّة كثيرة- مثل أسعار النّفط، والكوارث الطّبيعيّة، والحالات الصّحيّة الطّارئة، كاندلاع وباء "السّارس"-  لكنّ المسؤوليّة المقسّمة والمنافسة ما بين الحكومات قلّلت من فعاليّة استجابة السّياسات تجاهها. من هنا، تحتاج الحكومات الكنديّة إلى تحسين قدرتها على الاستجابة للصّدمات المقبلة.

 

تخضع الحكومات المحلّية لنطاق سلطة الأقاليم، في ظلّ غياب وضعٍ دستوريّ مستقل. رغم ذلك، فهي تقدّم سلسلةً واسعة من الخدمات إلى الكنديّين. وقد جرت تحرّكاتٌ أخيرة لتعزيز استقلاليّة البلديّات وقاعدتها الماليّة، ومنحها مكاناً في الحاكميّة الكنديّة المتعدّدة المستويات.

 

شدّد السّكان الأصليّون على حقّهم في تشكيل "مستوى حكوميّ ثالث" في كندا. فاستُقبلت مطالبهم بحقوقهم في الأرض والحكم الذّاتي بدعم قويّ في أوساط المحاكم. لذا من المهمّ أن تصمّم كندا نماذج للحكم الذّاتي، وتفي بحاجات السّكان الأصليّين الذين يعيش معظمهم اليوم في المدن.

 

يبقى توزيع السّلطات في كندا اليوم عملاً متطوّراً، يعتمد مستقبلُهُ، كما ماضيه، على التّسويات العمليّة في سياق الدّستور والعوامل القرينيّة العامّة المذكورة سابقاً. بالتّالي، فيما يعالج الكنديّون هذه القضايا، سيتعلّمون من بعضهم البعض ويساهمون في إثراء تجارب الآخرين.


 

ألمانيا: التّشريع الفدرالي المطبّق في المقاطعات

هانس-بيتر شنايدر

 

Germany: Länder Implementing Federal Legislation

Hans-Peter Schneider

 

يتميّز نظام ألمانيا الفدرالي بمبدأ "الفصل التّام" للمسؤوليّات بين الاتّحاد الفدراليّ والمقاطعات Länder (الولايات المكوّنة). فيعتبر كلّ مستوى حكوميّ مساءلاً بالنّسبة للقرارات الخاصّة التي يتّخذها، حتّى حين يفوّض قانونٌ فدراليّ السّلطة إلى برلمانات المقاطعات. لتعزيز هذا المبدأ، أقدمت المحكمة الدّستوريّة الفدراليّة على منع الإدارة المشتركة والتّمويل المشترك. إلا أنّ الاتّحاد الفدراليّ الألمانيّ لا يرتكز على صفّين منفصلين ومستقلّين تماماً من القوى الفدراليّة والإقليميّة، دون أيّ رابطٍ بين الاثنين. عوضاً عن ذلك، تتركّز الوظائف التّشريعيّة في الحكومة الفدراليّة، والوظائف الإداريّة في حكومة المقاطعة. في الواقع، تطبّق المقاطعة جزءاً كبيراً من التّشريع الفدراليّ، فضلاً عن قوانينها الخاصّة.

 

يميّز الدّستور الألمانيّ، أو القانون الأساسي، بين ثلاثة أنواع من السّلطات الفدراليّة: الحصريّة والمشتركة، والصّلاحيات ضمن أطر العمل. تشبه السّلطات الفدراليّة الحصريّة، إلى حدّ كبير، لائحة السّلطات الموكلة إلى مجلس الشّيوخ في دستور الولايات المتّحدة: الشّؤون الخارجيّة، والدّفاع، والمواطنيّة، وتحرّكات السّلع والأشخاص، والاتّصالات، والضّرائب الفدراليّة. أمّا لائحة السّلطات التّشريعيّة المشتركة فواسعةٌ جدّاً. فهي تتضمّن معظم السّلطات المبسوطة على الشّؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بما في ذلك خدمة الإنعاش، والضّمان الاجتماعيّ، وقانون العمل، والتّنظيم الاقتصاديّ، والزّراعة، وحماية البيئة. أخيراً، نذكر قوانين أطر العمل التي ترسي المبادىء الأساسيّة، تاركةً أمر تفسيرها للمقاطعة. غير أنّ لائحة المواضيع التي يحتمل أن تتناولها تشريعات أطر العمل موجزةٌ نسبيّاً، مع أنّها تتضمّن أيضاً الكثير ممّا يُعزى إلى المقاطعات بشكلٍ علنيّ: كالتّعليم العالي، والصّحافة وصناعة الأفلام، وإصلاح الأراضي، والتّخطيط الإقليمي. وقد حدّدت المحكمة الدّستوريّة الفدراليّة الشّرط الأساسيّ لصياغة تشريعات أطر العمل بإمهال المقاطعة وقتاً طويلاً عند تطبيقها للبنود الشّرطيّة المطلوبة.

 

لعلّ أكثر مظاهر النّظام الإداري الألمانيّ إثارةً للدّهشة هو أنّ المقاطعات نفسها تقوم بتنفيذ معظم القوانين الفدراليّة. فيفيد المبدأ الأساسيّ بأنّ المقاطعة ستطبّق التّشريعات الفدراليّة كمسائل تتّصل بشؤونها الخاصّة، طالما أنّ القانون الأساسيّ لا يشترط عكس ذلك. غير أنّ العكس ممنوعٌ منعاً باتّاً؛ فلا يسمح للاتّحاد الفدراليّ بتنفيذ أيّ قانونٍ من قوانين الولايات. من هنا، إنّ السّلطات التّنفيذيّة الفدراليّة المباشرة محدودة جدّاً، وهي لا تُطبّق إلا حيث تُعتبر الإدارة الموحّدة عنصراً مهمّاًً.

 

رغم ذلك، تملك الحكومة الفدراليّة الوسائل اللازمة للتّأثير على المقاطعات أثناء تنفيذها للقوانين الفدراليّة. فيمكنها أن تضبط وكالات المقاطعات التي تدير القوانين الفدراليّة. فضلاً عن ذلك، بإمكانها أن تقيّد من حريّة المقاطعات إداريّاً، عبر إصدار التّوجيهات الإداريّة، كما يمكنها أن تصدر القوانين المحلّية التي تلزم طرفاً ثالثاً أيضاً. ومن المحتمل أن تشرف الجهة الفدراليّة على المقاطعة لضمان تنفيذها القوانين الفدراليّة، فترسل المراقبين الفدراليّين إلى وكالات الوحدات المكوّنة لهذا الهدف. أخيراً، قد يتوفّر شكلٌ إداريّ متوسّط، تطبّق فيه المقاطعة القوانين الفدراليّة بصفتها "وكيلة" الاتّحاد الفدراليّ، أي عرضة لتلقّي التّعليمات الفدراليّة الملزمة.

 

في الواقع، لقد تقلّص النّطاق السياسيّ الذي يمكن للمقاطعة أن تتحرّك ضمنه على مدى السّنوات الخمسين الماضية. فضلاً عن ذلك، نتيجةً للدّرجة العالية من المشاركة في صنع السّياسات، تقلّصت الشفافيّة في عمليّة صنع القرار، كما خفّت قبضة الحكومة عليها. وقد قادت هذه التّطوّرات في العقود الماضية إلى تمركز القوى عند كلا المستويين الحكوميّين، أي مستوى الحكومة الفدراليّة من جهة، ومستوى المقاطعات مجتمعةً من جهةٍ أخرى، مع توزيع السّلطات والموارد الماليّة بالتّساوي تقريباً أيضاً. غير أنّ كتل السّلطة هذه –التي تملك تأثيراً سلبيّاً على المساءلة السياسيّة-  ترتبط ببعضها البعض ارتباطاً وثيقاً لدرجة أنّه يستحيل تغيير أيّ شيءٍ سياسيّاً تقريباً. فتتّفق الحكومة الفدرالية والمقاطعة على وصف هذه الحالة بالجمود، لكنّهما لا تتّفقان على الطريقة المناسبة لمعالجة ذلك.

 

يمكن تتّبع خطّ هذا الجمود بالعودة إلى التّسعينات والثّمانينات، حين أمست عمليّة صنع القرار السياسيّ في ألمانيا بطيئة بشكلٍ متزايد. في الواقع، أخذت هذه المرحلة تشهد تزايداً في الوعي الاجتماعي تجاه الحاجة إلى الإصلاحات الأساسيّة. غير أنّ هذا الوعي لم يلقَ إلا تجاوباً بسيطاً في الممارسات السياسيّة. وقد أُعيقت العمليّة التّشريعيّة نتيجةً لاختلاف الأكثريّتين في البندستاغ والبندسرات، أي في الهيئتين التّشريعيّتين العليا والدّنيا. فأخذت السّلطة التّشريعيّة للحكومة الفدراليّة تزداد باستمرار، فيما المقاطعة تفقد سلطتها التّشريعيّة أكثر فأكثر، حتّى باتت الآن مسؤولةً، فعليّاً، عن إدارة التّشريع وتطبيقه لا غير. لكن لا شكّ في أنّ شروط أطر العمل لتوزيع المسؤوليّات قد خضعت لتعديلٍ جوهريّ نتيجةً لتوحيد ألمانيا، ولتقدّم سير عمليّة الدّمج الأوروبي. من هنا، فإنّ التّدبير الحاليّ يهدّد، على المدى البعيد، بإضعاف القدرة السياسيّة على التّحرّك.

 

عدّلت عمليّتا الدّمج الأوروبي والعولمة الاقتصاديّة، كذلك، الشّروط الأساسيّة للإدارة السياسيّة داخل الدّول الفدراليّة تعديلاً جوهريّاً. فتشير هاتان العمليّتان إلى الحاجة لتعزيز السّلطة التّشريعيّة الخاصّة بالمستوى الحكوميّ الذي تحتلّه المقاطعة. ويتطلّب دمج الأسواق العالميّة تخصّصاً متزايداً بشكلٍ دائم، تنفّذه الأعمال في الدّول ذات التّكاليف الإنتاجيّة الأكبر. نتيجةً لذلك، ازدادت أهميّة الخلافات الطّائفيّة والإقليميّة في المنافسة بين المناطق. ففي دولٍ مثل ألمانيا، يقود ذلك إلى ازدياد أهميّة المقاطعة كعامل فاعل في السياسة الاقتصاديّة. بالتّالي، تعتبر هذه الظّروف الأساسيّة المتغيّرة في الفدراليّة الألمانيّة كافيةً لتوضيح الحاجة إلى مراجعة الدّستور الألماني، بصفتها قضيّة سياسيّة ملحّة. وتكمن، في جوهر هذه القضيّة، مسألة توزيع مسؤوليّات الفدراليّة والمقاطعات وفصلها، فضلاً عن إصلاح الدّستور الماليّ. 

 

بالكاد تسمح بنى الدّستور الفدراليّة "المتحجّرة" بردّات فعلٍ مرنة تجاه التّغييرات المجتمعيّة الحديثة. فبينما تطالب قوى السّوق وأنظمتها التّوزيعيّة النّظامَ السياسيّ بمرونةٍ أكبر في قدرته على إبداء ردّة فعلٍ، أخذ النّظام السياسيّ يفقد مرونته أكثر فأكثر، بسبب الواقع الدّستوريّ في ألمانيا، نتيجةً للمهام والضّرائب المشتركة، وبسبب النّظام الموحّد لإعادة توزيع الدّخل الحكومي من الضّرائب ("مخطّط تحقيق المساواة")، والاتّساع المستمرّ لنطاق التّشريع الذي يتطلّب موافقة البندسرات.


 

الهند: الاستمراريّة والتّغيير في الاتّحاد الفدرالي

جورج ماثيو

India: Continuity and Change in the Federal Union

George Mathew

 

تتعرّض الهند، منذ أكثر من عقدٍ، لضغوطاتٍ تدعوها إلى اعتماد اللامركزيّة، مع مطالبة الولايات بالحصول على مجالٍ أكبر لإبداء الرّأي والتّحكّم بالتّنمية الاقتصاديّة. ورغم أنّه يُتوقّع من الوحدات الوطنيّة الفرعيّة في الهند أن تساهم في تعزيز قوّة الدّولة ككلّ، إلا أنّ الولايات أخذت تحتجّ مؤخّراً ضدّ أيّ تدخّلٍ سياسيّ من الحكومة المركزيّة في نيودلهي. كما اعترضت الولايات ضدّ تكديس السّلطات الضّريبيّة التي تتمتّع بها الحكومة الوطنيّة، لا سيّما وأنّها قد خلّفتها ضعيفة ماليّاً. وتعتبر هذه الضّغوطات السياسيّة الجديدة إبطالاً للميل السّابق الذي ترافق مع مركزة متزايدةٍ للسّلطات والمسؤوليّات.

 

نشأت بنية الهند الفدراليّة المعقّدة مباشرةً بعد الاستقلال في 1949-1950. فأصبحت الهند اتّحاداً للولايات، يتألّف من 28 ولاية تامّة، وستّ مقاطعات اتّحاديّة (وعلى رأسها الحكومة الفدراليّة)، ومقاطعة واحدة هي العاصمة الوطنيّة، وأكثر من اثنتي عشرة ولاية فرعيّة تتمتّع بالحكم الذّاتي، كالمجالس الإقليميّة ومجالس الدّوائر المستقلّة. تستمدّ كلّ بنى الحكم هذه، إلى جانب الحكومات المحلّية، سلطتها من دستور الهند (باستثناء جامو وكشمير اللّتين تملكان دستورهما الخاصّ). وتجدر الإشارة إلى أنّ الدّستور يوزّع السّلطات بتناسق- مثلاً، يجعل الملحق السّابع توزيعَ السّلطات متناسقاً بين الحكومة الفدراليّة وحكومات الولايات- لكنّه يوزّعها أيضاً بغير تناسق من خلال عدّة مواد كتلك التي تتوجّه حصريّاً إلى الجماعات القبليّة، والأقليّات الإثنيّة، والتّنمية الوقائيّة للشّعوب الإقليميّة والإقليميّة الفرعيّة المختارة. فتولّد هذه البنية من توزيع السّلطات وتدابير المشاركة في السّلطة صيغةً معقّدة للغاية من الفدراليّة.

 

تظهر الضّغوطات السياسيّة، ضمن الهند، على المستويين المركزي واللامركزيّ معاً. فمن جهةٍ، تبرز أهميّة المحافظة على الوحدة الوطنيّة والدّمج الوطني. أمّا من جهةٍ أخرى، فتبرز الشّروط المتنوّعة للتّنمية الاقتصاديّة عبر المناطق، والطّبقات، والطّوائف، وغيرها من الاختلافات الجغرافيّة والإثنولوجيّة. ومع أنّ الاتّحاد الفدراليّ يتألّف من شبكةٍ معقّدة من السّلطات، والمؤسّسات، والهيئات السياسيّة، إلا أنّه يتوقّع من كلّ وحدة حكمٍ أن تخدم قوّة الاتّحاد وتعزّزها، إلى جانب المحافظة على هوّيتها الخاصّة ووحدة أراضيها.

يبني الدّستور الاتّحادَ الفدراليّ انطلاقاً من الهيئات المحلّية، فالولايات، فالهيئات الإقليميّة، مع إنشاء حكومةٍ اتّحاديّة (حكومة وطنيّة) للتّنسيق بين البنى المتنوّعة للحكم المشترك. تتمتّع السّلطة المركزيّة بقوىً تنظيميّةٍ تمارسها على عددٍ كبير من المسائل نوعاً ما. لكن تمّ تحويل مسائل الاستيراد المحلّي إلى الوحدات الوطنيّة الفرعيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ الدّستور يعترف بسيادة الصلاحيّات المنوطة بكلّ وحدة فدراليّة. لكن تتوافر أيضاً "أعباء تفاضلية"- حيث يترتّب على بعض الوحدات مسؤوليّات عمليّة أكثر من البعض الآخر- ضمن ميادين البحث المتشابهة أو المختلفة. وهكذا، فيما تبسط الولايات سلطتها على مجال التّربية الابتدائيّة عموماً، لا تنطبق الحالة نفسها على التّعليم العالي، حيث يجب أن تتشارك في صلاحيّاتها مع الحكومة المركزيّة.

 

بشكلٍ عام، تمّ تعيين ثلاثة أدوار مهمّة للحكومة الاتّحاديّة: دعم الوحدة الوطنيّة ووحدة الأراضي، والمحافظة على النّظام الدّستوريّ والسياسيّ في الوحدات المكوّنة، والتّخطيط للتّنمية الاقتصاديّة الوطنيّة. صحيحٌ أنّ الولايات نادراً ما تشكّك في النيّة الدّستوريّة لسلطات الحكومة الاتّحاديّة وفي تفويض هذه السّلطات، لكنّها تسعى مراراً إلى الشّفافيّة الإجرائيّة والمشاركة في عمليّة صنع القرار ضمن الحكومة الاتّحاديّة، لا سيّما في ما يتعلّق بممارسة السّلطة على الدّورين الثّاني والثّالث. كما تصرّ على أدنى حدّ من التّدخل في شؤون الولايات من جانب الحكومة الاتّحاديّة، خاصّةً بحجّة المحافظة على النّظام السياسيّ الدّستوريّ ضمن الوحدات. في هذا المنظور، تعترض الولايات، بشكلٍ خاصّ، على ممارسة الحكومة الاتّحاديّة لسلطاتها الطّارئة، بموجب المادّة 356 التي تسمح لها بنشر قوّاتها العسكريّة، والاحتفاظ بمشاريع القوانين التّابعة للولايات، بانتظار عرضها على رئاسة الجمهوريّة ومصادقة الحاكم عليها. وتفيد الحجّة المتكرّرة بين الولايات بأنّ الحكومة الاتّحاديّة قد كدّست العديد من المواد التّطويريّة ضمن صلاحيّاتها، بحجّة خدمة المصالح الوطنيّة والعامّة الأوسع؛ وهي موادّ يمكن أن تخضع، في الحالة المغايرة، للولايات. كلّ هذا أدّى إلى تمركز المواد الأكثر إنتاجاً للمداخيل في يد الحكومة الاتّحاديّة، وبالتّالي تقلّص المدخول النّاتج عن قدرة الولايات.

 

لهذه الأسباب، أخذت الولايات تطالب بتقليص سلطة الحكومة الاتّحاديّة بشكلٍ جذريّ. فأُنشئت العديد من اللّجان الرّفيعة المستوى لدراسة هذه المسألة. فاكتشفت جميعها، باستثاء واحدة، أنّ الدّستور ليس سليماً وحسب، بل إنّه مرنٌ بما فيه الكفاية لإبطال مركزيّة القوى والسّلطات من الحكومة الاتّحاديّة إلى المناطق. فاقترحت اللّجان العديد من التّعديلات العمليّة المتعلّقة بسير العلاقات بين الاتّحاد والولايات. وكانت إحدى هذه اللّجان الباحثة في العلاقات بين الاتّحاد والولايات خاضعة لرئاسة القاضي ر.س. ساركاريا الذي قدّم توصياتٍ بعيدة المدى.

 

عام 1990، أنشأت حكومة الهند مجلس ما بين الولايات لتطبيق توصيات "لجنة ساركاريا"، وتعزيز التّوافق بين الولايات والاتّحاد من جهة، وبين الولايات أنفسها من جهةٍ أخرى، فضلاً عن تعزيز التّنسيق بين السّياسات. ويعمل مجلس ما بين الولايات سعياً للحصول على الإجماع بشأن التّغييرات المحتملة في بنية العلاقات بين الولايات وسيرها. وقد نجح هذا المجلس في تطوير نوعٍ من الاتّفاق حول إصلاح النّواحي الحرجة من العلاقات الفدراليّة. كما تمّ تأسيس مجالس أخرى لتوطيد علاقاتٍ أقوى بين الولايات. لكن، في ما خلا المجلس الشّماليّ الشّرقيّ، تعتبر المجالس الأخرى إمّا ميتة وإمّا مشوّهة بسبب الكراهيّة المتبادلة.

 

تمّ تصميم المتغيّرات الأخيرة في الفدراليّة الهنديّة لضمان الحاكميّة الفاعلة، وذلك من خلال تمكين الشّراكة الخاصّة والعامّة عند المستويات الحكوميّة كافةً. يؤدّي برنامج عمل الحاكميّة الفاعلة إلى توسيع استقلاليّة الولاية، لا سيّما في مجال التّنمية الاقتصاديّة. فيُسمح للولايات تقديم الإصلاحات الاقتصاديّة التّنافسيّة عبر أشكال متنوّعة من اللامركزيّة السياسيّة والإداريّة. والآن، تستطيع الولايات دعوة الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة بمفردها. كما يُسمح لها تقديم الإصلاحات والابتكارات في اقتصاد الولاية، وإبطال مركزيّة السّلطات وفقاً للحاجات الفرديّة في الولايات المعنيّة. وقد أظهر النّظام الفدراليّ ما يكفي من المرونة للتكيّف، مع التّوفيق بين ضرورات الوحدة الوطنيّة واقتصاد السوق التحرّريّ في القرن الواحد والعشرين.