ناتالي سليمان

المعهد الديمقراطيّ الوطنيّ – بيروت

7/6/2005

 

 

 

 

مقدّمة: ها هي فكرة الفدراليّة تطلّ من جديد

Foreword: The Resurgence of the Federal Idea

 

 

شهدت السنوات العشر الأخيرة، من جديد، اهتماماً متزايداً بالأفكار الفدراليّة. وما إصراري على استعمال عبارة "فكرة الفدراليّة"، بتأنٍّ، سوى أنّ استعمال مصطلح الفدراليّة، وحده، من شأنه أن يحدّ من المناقشة القائمة حول هذا الموضوع ومن القدرة على استيعابه. ففي إسبانيا، لا تزال الحكومة المركزيّة تحجم عن اعتماد هذه الكلمة، ظنّاً منها أنّها تعني ضمناً الاجتزاء من سيادة الدّولة؛ أمّا الكاتالونيّون، فلا يتبنّون، من جهّتهم، هذا المصطلح على اعتبار أنّه لا يمثّل عن حقّ الطّابع الاستثنائيّ الذي تتّخذه مطالبة مقاطعة كاتالونيا بالحكم الذاتيّ. أمّا في دولة جنوب أفريقيا، فقد اتّخذت الكلمة مدلولاً سيّئاً، لأنّها لاقت استحساناً رسميّاً لدى حكومة الفصل العنصريّ. وبموازاة ذلك، دفعت نظرة المؤتمر الوطنيّ الأفريقيّ، الرّامية إلى قيام "دولة جنوب أفريقيا الموحدّة"، الحزبَ إلى التردّد في إضفاء أيّ صفةٍ "فدراليّة" على الدّستور الجديد.

          نشير في ما يلي إلى نوعٍ من الجدل غير المستجدّ تقريباً: كان الخطّ التقليديّ الذي يمثّله جيفرسون في السياسة الأميركيّة يفخر بأن يطلق على نفسه إسم "التوجّه المناهض للفدراليّة"، مذ خلُص إلى أنّ القوى المركزيّة الكامنة وراء جون أدامس وألكسندر هاملتون قد رفعت شعار "الفدراليّة"؛ علماً أنّ توماس جيفرسون وجون أدامس كانا مناصرَيْن شديدَيْن للفدراليّة، يتشاطران فرضيّات أشدّ أهميّةً ممّا كان الجدل الديمقراطيّ، ببلاغته، لينشره من معتقدات.

          فما يحصل اليوم في دول جنوب أفريقيا، وإسبانيا، والمكسيك، ونيجيريا، والمملكة المتّحدة، وروسيا، والبرازيل، والهند، وباكستان، وقبرص، والعراق، وسريلانكا، تعداداً لا حصراً، يعكس بعضاً من أهمّ النّزعات المشتركة الواجب استيعابها. ولكن، على الرّغم من أنّ النّظام الفدراليّ يتّخذ أشكالاً كثيرة بالطّبع، يبقى الأهمّ هو المفهوم السّائد للفدراليّة.

          تستمدّ أشكال التّعاون والاتّحاد المعهودة في التّرتيبات السياسيّة جذورها من عدّة مجتمعات قديمة، انطلاقاً من المجالس القبليّة الأفريقيّة، ومروراً بالمواثيق المعقودة بين الدّول-المدن، ووصولاُ إلى اتّحاد إيروكوا الكنفدرالي Iroquois Confederacy. غير أنّ المفهوم المعاصر للفدراليّة يشكّل، في المقام الأولّ، مفهوماً ديمقراطيّاً، إذ يضمن احترام هويّة الشّعوب وخياراتها السياسيّة. ولكنه لا يلتقي مع المفهوم الشعبيّ للديمقراطيّة الذي لا يقوم على مبدأ احترام حقوق الفرد، ومراعاة الإجراءات الدستوريّة، وحكم القانون. كما أنّ هذا المفهوم يتنافى مع عناصر المجتمع التي تؤمن بأنّها على بيّنةٍ من مصالح الشّعب "الفعليّة" أو "المحقّة". من هنا، فإنّ النظريّات التي تنمّ عن معرفةٍ بالحقائق السياسيّة (أو بالحقائق الدينيّة، على حدّ ما يبدو جليّاً في العالم) تُعتَبر من ألدّ أعداء فكرة الفدراليّة.

          إلاّ أنّ فكرة الفدراليّة تدرك أهميّة السّياسات والمفاهيم المتنافسة حول ماهية المصلحة العامّة. فضلاً عن أنّها تجسّد شأناً عامّاً يدعو إلى الحدّ من نطاق عمل الحكومة. فالدساتير التي تحدّد الصلاحيّات المسنَدة إلى الحكومة، بمختلف مستوياتها، وتصون تالياً، الحقوق والحريّات، تتطرّق حتماً إلى محدوديّة السيادة الشعبيّة، وإلى حماية حقوق الجماعات والأفراد على حدٍّ سواء، إذا ما اقترنت بأجهزةٍ قضائيّة قادرة على تجسيد هذا التّوازن- وتعزيز قوامه.

          تمثّل هذه النقاط نقاطاً أساسيّة للعناصر التي تحدّد فكرة الفدراليّة، أي أنّ الدولة الفدراليّة هي الدولة التي تقوم فيها السلطة على مبدأ الاقتسام والتّنسيق؛ ما يولّد بالطّبع، أسباباً رئيسيّة لإحداث توتّرٍ في الفدراليّة. فالفدراليّة لا تنطلق من مجرّد "مفهوم أحاديّ"، بل إنّها تستوجب وجود اتّفاقٍ مشترك على اتّخاذ إجراءاتٍ معيّنة بمعزلٍ عن الطّرف الآخر، وإجراءاتٍ أخرى معه. زِد على أنّها لا تُعتبر مجرّد تنازلٍ عن السلطة، لأنّ المبدأ المنطقيّ يفيد بأنّ تنعم حكومات الولايات أو المقاطعات بالسّيادة في دائرة نفوذها، بقدر السيادة التي تتمتّع بها الحكومة القوميّة أو الفدراليّة ضمن دائرتها الخاصة. فنحن لا نتحدّث، في هذا الإطار، عن الحكومات "الأرفع مقاماً" أو "الأدنى مقاماً"، ولا عن الحكومات "الأعلى سلطة" أو "الأدنى سلطة"، بل نتحدّث عن عدّة حكوماتٍ تؤدّي مهامّ مختلفة ضمن إطار عمل مشترك. ولا تُعتبر الحكومة المحليّة مجرّد كيانٍ تابع للمقاطعات، التي تسند إليها أداء بعض المهمّات، بل إنّها تتمتّع أيضاً باستقلاليّتها، وباتّصالها المباشر مع الشّعب.

          بالتّالي، تستدعي فكرة الفدراليّة التّحاور بشكلٍ متواصل، يدوم فعلاً إلى ما لا نهاية، بشأن الصلاحيّات الموكلة إلى كلّ كيان. لأنّ كلّ اتّحاد فدراليّ يواجه مشاكل جمّة تتعلّق بشؤون الضريبة، وبطرق تحصيل الأموال، وتقاسمها، وإنفاقها. ففي كندا، تبقى الموارد ملكاً للمقاطعات، على أن تعود المكاسب المفاجئة المحصّلة منها إلى مختلف حكومات المقاطعات. أمّا في نيجيريا، تطالب الحكومة المركزيّة بتحصيل مداخيل البترول كلّها، وتوزيعها في مرحلةٍ لاحقة، وفقاً لصيغةٍ معيّنة. ومع استعادة النّظام الفدراليّ الديمقراطيّ في تلك الدولة، باتت قضيّة كيفيّة توزيع المداخيل تُطرح الآن في إطار المحكمة. ويّقال أنّ الصّيغة الأسترالية المعتمَدة في تقاسم المداخيل هي من التّعقيد بمكان، أنّها تذكّرنا بتعليقٍ صدر عن رجل الدولة البريطانيّ: "لا يعرف بأسباب حرب القرم إلاّ ثلاثة أشخاص، إثنان منهما لقيا حتفهما، أمّا أنا فلم أعد أذكرها."                        

ومع بروز إجماعٍ متزايد على حاجة الحكومات المحليّة وحكومات الولايات إلى تحصيل الأموال  التي من المفترَض بها أن تنفقها على تنفيذ برامجها الخاصة، يتعزّز عاملَيْ الشفافيّة والمساءلة على حدٍّ سواء. ولكن، أينما تعذّر على هذه الحكومات تحقيق هذا الأمر، وجب أن يتمّ تقاسم المداخيل المركزيّة بطريقةٍ جليّة، لا تتّسم، بمعظمها، بطابعٍ أحاديّ الجانب؛ وإلاّ قد يستتبع عدم حصول هذا الأمر، كما هي الحال في أغلب الأحيان، نشوب بعض النّزاعات.

من هذا المنطلق، يشير المعارضين لانتهاج الفدراليّة إلى هذه النّزاعات، وإلى التّعقيدات المربكة المعهودة في المؤسّسات الفدراليّة، بالإضافة إلى الكلفة التي تدّعي تحمّلها نتيجة تعدّد الحكومات، متذرّعةً بها، إمّا لإلغاء مجمل الحكومات الإقليميّة، وإمّا مدعاةً للإنفصاليّة. لذا، غالباً ما لاقت الفدراليّة معارضةً من عناصر الأكثريّة، نظراً إلى أنّها تكبّد دولاً "صغيرة للغاية" تكاليف ناجمة عن ترتيباتٍ فدراليّة، على حدّ قولهم. ومن جهّةٍ أخرى، تحاجج الأقليّات المشهود بعزمها أنّ حقّ تقرير المصير هو حقّ مطلق، وأنّ النّظام الفدراليّ يزيد كيان الدّول المنفصلة البسيط تعقيداً.

إلاّ أنّنا يجب أن نشكّك بصحّة هذه المزاعم، لعدم استنادها بالطّبع على أسسٍ متينة. فقد يكون من الصّعب الإشادة "بفعاليّة" الحزب الواحد في المكسيك أو بالنّظام الديكتاتوريّ العسكريّ في نيجيريا، حين يتبيّن أنّ سويسرا، ذات المساحة الجغرافيّة المحدودة والنّظام السياسيّ المعقّد، استمرّت لعقودٍ طوال، رمزاً للفاعليّة والتّسامح.

في الواقع، تجسّد فكرةُ الفدراليّة التّعقيدات التي ينطوي عليها أيّ نظام، وإنّما يتجلّى فيها أيضاً كلَّ ما تنطوي عليه أيّة مفاوضات غير متناهية من أخذٍ وردّ- ألا يجسّد هذا المنطق واقع الحياة، في أيّة حال؟- وبالتالي، العالمَ البسيط المعاصر لمناصري يعقوب ولينين، ومحبّذي النّظام العسكريّ، والمتعصّبين دينيّاً، أو حتى مناصري القوميّة العرقيّة الذين ولّى زمنهم، وكانوا يتصدّون لأيّ شكلٍ من أشكال التعدديّة.

يعزو البعض انبعاث فكرة الفدراليّة مجدّداً إلى عدّة أسباب جوهريّة، نذكر منها حيويّة القيم الديمقراطيّة، والثّورات التي تشهدها السّياسات المدافعة عن الهويّة وحقوق الإنسان، والانهيار المزدوج لنظامَيْ الفصل العنصريّ والشيوعيّة البيروقراطيّة، وتداعيات الثّورة التكنولوجيّة، والمتغيّرات الاقتصاديّة النّاشئة عن "العولمة"، مع الإشارة إلى أنّ كلّ هذه الأسباب قد أسهمت في ذلك. فنشير، مثلاً، إلى أنّ تولّي حزبٍ واحد الحكم في المكسيك طيلة القرن العشرين تقريباً، بيّن أنّه فيما كان الدّستور يشدّد على الطّابع الفدراليّ للدّولة، لم يعكس الواقع هذا النّظام إطلاقاً، على غرار ما حصل أيضاً في الاتّحاد السوفياتيّ. فقد خلّف الحكم العسكريّ عواقب أليمة على كلٍّ من البرازيل ونيجيريا: لأنّ مفهوم الفدراليّة يتنافى مع ذهنيّة الهرميّة العسكريّة القائمة على السّيطرة والتحكّم.

لا يقتصر هذا التجدّد إطلاقاً على الدّول التي تتّبع تقليداً فدراليّاً. فلطالما تعيّن على الدّول أن تتخبّط مع حقيقةٍ مفادها أنّ التّقسيم الجغرافيّ قلّما يدلّ على تآلفٍ تلقائيّ. ومن هذا المنطلق، باتت النّزاعات الإثنيّة، واللغويّة، والعرقيّة، والدينيّة تشكّل المسألة الأساسيّة التي يواجهها النّظام الدوليّ اليوم. فالحروب التي نشبت بين الدّول، بعد العام 1945، تضاهي تلك التي اندلعت داخلها، مخلّفةً عواقب وخيمة على السّلام والأمن، إذ ما عاد الجنود هم الذين يموتون بالملايين، بل المدنيّين. ومن رواندا وصولاً إلى كمبوديا، كما من البلقان وصولاً إلى تايمور الشرقيّة، دارت المعارك داخل دولٍ عجزت عن حلّ النّزاعات التي أطلق عليها مايكل إنياتيف نزاعات "الدّم والإنتماء".

وفي هذا السّياق، عادت فكرة الفدراليّة تلوح في الأفق من جديد. وبذلك، أخذت المفاوضات في سريلانكا تنصبّ بالدّرجة الأولى على إيجاد ترتيبات عمليّة لاقتسام السّلطة وتقاسمها على حدٍّ سواء، وإعطاء الأقليّة الحقوق المدنيّة، وتعزيز الانفتاح اللغويّ والتّسامح الدينيّ: ولكن لم يتحقّق ذلك إلاّ بعد نشوب نزاعٍ حصد أكثر من ستّين ألف قتيلٍ في الأعوام الخمس والعشرين المنصرمة. أمّا المفاوضات الشّاقة القائمة في إيرلندا الشماليّة- التي مات الآلاف من أبنائها أيضاً- فلن تتوصّل إلى تسويةٍ إلاّ عند إبداء الاستعداد للاعتراف "بشرعيّة" الآخر، وإظهار القدرة على التحلّي بالمرونة على الصعيدَيْن السياسيّ والإداريّ، وإمكانيّة احتواء الإرهاب. ومع أنّ هذه الإجراءات تبقى أسهل للتّنظير منها للتّطبيق، من الصّعب ألاّ تشكّل الفدراليّة جزءاً من الحلّ المقترَح- إن كان من حلولٍ يمكن إيجادها- لكلّ حالةٍ من الحالات.

في السودان، يتمّ اليوم التّفاوض من أجل وضع حدٍّ للحرب الأهليّة بين الشّمال والجنوب التي أودت بحياة مليونَيْ شخص. وتشكّل التّرتيبات الفدراليّة جزءاً من الاستراتيجيّة الرّامية إلى تسوية هذا النّزاع الشّائك للغاية. ومن جهّةٍ أخرى، نرى أنّ وجود الدّولة الكرديّة المستقلّة، في العراق، يعيد بوضوح طرح مسألة الفدراليّة في خضمّ النّقاش الدّائر حول التّرتيبات الدستوريّة الجديدة المتّخذة لإنشاء دولةٍ عراقيّة موحَدّة، ولكن غير مركزية (لا تعتمد الوحدة المركزية). والجدير بالذّكر أنّ مسائل الحكم الفدراليّ تشغل حيّزاً كبيراً في المناقشات السياسيّة والقانونيّة الفاعلة الّدائرة في كلّ أقطار العالم، وبالأخصّ في المناطق التي أضحت فيها تسوية النّزاعات حاجة ماسّة.

كما تشكّل فكرة الفدراليّة جزءاً من نزعةٍ أخرى. فقد نجم عن التّعاون الأوروبيّ القائم قيام برلمان أوروبيّ منتخَب، ومحكمةٍ مشتركة، وحريّة التنقّل، فضلاً عن اعتماد مبدأ التّجارة الحرّة وعملة مشتركة، حتى باتت الفدراليّة التي تتجاوز حدود الدّولة تفرض نفسها اليوم كواقعٍ قائم بذاته، على الرّغم من التذمّر الشّديد الذي تلقاه هذه العبارة. وصحيحٌ أنّ مفهوم السّيادة الوطنيّة لم يضمحلّ وزمن الدّولة القوميّة لم ينقضِ، وإنّما يبدو جليّاً أنّ اعتبار هذين النّظامَيْن حصريَّيْن أو شديدَيْ الوضوح لم يعد رائجاً. فممارسة الحكم داخل الدّول باتت خاضعة حتماً لتمحيص الآراء السياسيّة والإقتصاديّة والدوليّة، وبالأخصّ، لأحكام القانون ذاته.

في ختام المؤتمر المنعقد عام 1999 في ماونت تريمبلنت للبحث في الفدراليّة، ذكر الرّئيس بيل كلينتون أن "فكرة الفدراليّة قد لا تكون بهذا السوء فعلا". وكان محقّاً في ما قاله، إذ أنّ انهيار دولة الحزب الواحد، والمطالبة بالاعتراف بالهويّة، والحضّ على تمكين العناصر المحليّة، والإصرار على تحقيق المزيد من الانفتاح والشفافيّة على صعيد الحكومات، والإقرار بأنّ السّيادة ما عادت مطلقة في عالمٍ أصغر وأكثر استقلاليّة، هي من العوامل التي أعادت إلى الواجهة فكرة الفدراليّة.

 

بوب راي

رئيس منتدى الاتّحادات الفدراليّة

رئيس وزراء أونتاريو الواحد والعشرين